الصحة اللغوية: مفتاح النمو النفسي والاجتماعي
يستعرض هذا المقال العلاقة العميقة بين اللغة والصحة، ويحلل كيف يؤثر الوعي اللغوي وثقافة التعبير في قدرة الإنسان على إدراك ألمه، ونمو وعيه، وتطوره النفسي والاجتماعي. من خلال نقد ثقافي وتحليل بنيوي، يكشف المقال عن الفجوات بين لغة العلم ولغة العامة، ويطرح دعوة لفهم "الصحة اللغوية" كعنصر أساسي في الصحة الكلية للإنسان والمجتمع.

حين تصمت اللغة: في مهب الألم والصحة والنمو
كم مرة سمعنا صرخة وليد، عاجزين عن فهم وجعه؟ كم مرة حدّقنا في عيون طفل يتألم، فنسمع منه "لا أعرف" حين نسأله عن موضع الألم؟ كم من مرة اعترانا وجع خفي، وعجزنا أمام الطبيب عن وصفه، رغم فصاحة ألسنتنا؟ إنها لحظات يتجلى فيها عجز اللغة عن التعبير، ويُعرّي الواقع هشاشة أدواتنا في وصف الذات، وتحديد معالم العلّة.
لكن، ما الذي يعطل هذه الأداة المفترضة للتواصل؟ هل هي أمية لغوية مجردة – قلة في المصطلحات والكلمات؟ أم أنها غربة عن الذات الجسدية والنفسية؟ أم أننا إزاء افتقار متجذر لثقافة الصحة، وإدراكها بوصفها ممارسة لغوية – معرفية قبل أن تكون إجراءات طبية؟
من البديهي أن للغة وظائف تتجاوز النقل المجرد للمعلومة؛ فهي أداة للفهم، ومسرح للتعبير، وجسر بين العوالم الداخلية والخارجية. غير أن التعبير عن الألم، أو الشعور، أو حتى الوعي بالصحة، لا يتم عبر "اللغة" فقط، بل عبر منظومة متشابكة تشمل اللغة والثقافة والسياق النفسي والاجتماعي. فاختلاف أنماط التعبير بين الأفراد والمجتمعات لا يعود فقط لاختلاف اللغات، بل لاختلاف الثقافة التي تشكّل استخدامات تلك اللغة، وتُعيد توجيه دلالاتها.
هنا يظهر الفرق الجوهري بين "ثقافة الصحة والعافية" و"ثقافة التعبير". الأولى تتطلب معرفة بالمفاهيم الصحية، أنماط الحياة، السلوك الوقائي، والتطور العلمي في مجالات الجسد والعقل. أما الثانية، فهي القدرة على تحويل ما يشعر به الإنسان إلى كلمات مفهومة، وإطار لغوي مشترك يربط بين الخبرة الفردية والفهم الجماعي.
ولا تكتمل منظومة النمو الصحي للفرد دون تنمية هاتين الثقافتين معاً. فبدون لغة تعبّر عن الألم، يظل الجسد صامتاً في حضرة معاناته. وبدون وعي صحي، تفرغ اللغة من محتواها، وتغدو الكلمات مراوغة، عاجزة عن الإحاطة بما يحدث في الداخل.
إن الطفل الذي لا يعرف توصيف وجعه، ليس بالضرورة جاهلاً باللغة، بل قد يكون في طور نموٍّ لغوي لم يكتمل بعد، أو في بيئة لا تعزز دمج اللغة بالصحة. كذلك، فإن البالغ الذي يعجز عن وصف شعوره للطبيب، قد يكون ضحية فجوة معرفية بين "لغة الطب" و"لغة الحياة اليومية"، أو بين "الوعي الصحي" و"الوعي اللغوي".
وفي مجتمعٍ ما، حين تتحول بعض الأمراض إلى تابوهات لغوية، ويُستعاض عن مسمياتها بمجازات مثل "المرض الوحش" أو "الشيء إياه"، فإننا نكون أمام ثقافة تعبيريّة تنسحب من مواجهة الألم، وتكتفي بتحييده لغويًا بدلاً من تشريحه معرفيًا.
من هنا، يصبح من الضروري إعادة التفكير في العلاقة بين اللغة والصحة. فالتطور اللغوي ليس غاية في ذاته، بل أداة للنمو النفسي والمعرفي. والوعي الصحي ليس معلومات طبية فحسب، بل جزء من قدرة الإنسان على فهم ذاته، وتوصيل معاناته، والتفاعل مع محيطه بطريقة متزنة وفعالة.
اللغة بين العلم والعاطفة: فجوات التعبير وصحة الوعي
تتجلى إحدى المفارقات العميقة في عالمنا المعاصر في تلك الهوة اللغوية التي تفصل "لغة الطب" عن "لغة الناس". فبينما تنحو اللغة العلمية إلى التجريد والدقة، تقيم لغة العامة في عالمٍ نابض بالمجاز والحس والانفعال. تلك الفجوة، وإن بدت لغوية في ظاهرها، إلا أنها في جوهرها فجوة معرفية وشعورية، تحجب الإنسان عن ذاته حين يحتاج إلى فهمها، وتقيّد الطبيب حين يسعى إلى مداواتهاِِ.
ففي حين تتطلب اللغة العلمية اختزالاً شديداً للمفاهيم، وتعريفات لا تقبل التعدد أو التأويل، تنمو لغة العامة في بيئة سياقية، مشبعة بالمشاعر والرموز، تتعدد دلالاتها بتعدد مستخدميها. ولذلك، حين يُسأل مريض عن طبيعة ألمه، لا يُجيب بتقرير سريري بل بانطباع حسي: "كأن سكينا تقطعني"، أو "كأن ناراً تسري في عروقي". هذه ليست أوصافاً طبية، بل استعارات وجودية، تنبثق من عمق التجربة الذاتية، لا من قاموس التشخيص.
وهكذا، يُلقى على عاتق الطبيب عبء مزدوج: أن يتقن لغة العلم، وأن يحذق ترجمة لغة الوجدان الشعبي إلى معايير تشخيصية قابلة للتفسير والتدخل. فالعلم لا يشفي وحده، ما لم تُترجم الشكوى إلى مفرداته. وإذا كانت اللغة أداة الوعي، فإن الصحة لا تكتمل إلا بلغة تليق بوصفها، وبيئة تتيح التعبير عنها.
إن هذه الثنائية بين لغة الطب ولغة العامة تنعكس أيضاً في اختلاف ثقافات الشعوب في أساليب التواصل. شعوب البحر المتوسط، على سبيل المثال، تُظهر ميلاً إلى التعبير الجسدي والانفعالي: الأصوات المرتفعة، التعابير الدرامية، واستخدام الجسد كوسيلة داعمة للغة. بينما تتميز ثقافات شرق آسيا بالهدوء، وكتمان الانفعالات، والاقتصاد في الإيماء. هنا لا يمكن فهم اللغة إلا ضمن إطار ثقافي يحدد طبيعة التعبير وحدوده.
وتزداد المسألة تعقيداً حين تنتقل من فضاء التعبير إلى فضاء التلقي والمعرفة. فاللغة التي تُدرّس بها العلوم الطبية – وغالباً ما تكون الإنجليزية – ليست اللغة الأم لكثير من المجتمعات. بل إن هذه "اللغة العالمية" فرضت معاييرها على "النسق المعرفي"، مما أدى إلى تهميش لغات محلية عريقة، تملك منظومات تفسيرية مختلفة للألم، للمرض، للشفاء. فجعلت هذه اللغة، لا العلم، هي المعبر الوحيد للاعتراف والاعتماد والبحث.
خلال جائحة كوفيد-19، لم تكن الفجوة فقط تكنولوجية أو صحية، بل لغوية ومعرفية. فالمجتمعات التي تتحدث لغات قريبة من المركز المعرفي الغربي كانت الأشدّ استهدافاً بالمعلومات والتحذيرات، بينما تُركت مجتمعات لغات الأطراف في فراغ تأويلي، يعتمد على الترجمات المتأخرة، أو المعارف المتوارثة، أو التجاهل التام.
إننا أمام خلاصة بالغة الأهمية: "الصحة اللغوية" هي جزء لا يتجزأ من الصحة العامة. لا شفاء حقيقياً دون لغة قادرة على توصيف الوجع بدقة، ولا تشخيص دقيق دون ترجمة مأمونة لما يقوله المريض، لا لما يظنه الطبيب. وهذا ما يستدعي ثورة معرفية تعيد الاعتبار للتعدد اللغوي في العلوم الطبية، وتحرر الإنسان من شرط "إتقان لغة الآخر" ليتم الاعتراف بآلامه.
إن النمو الصحي والثقافي للمجتمعات لا يتحقق عبر التكنولوجيا فحسب، بل عبر تجذير الوعي الصحي بلغات الناس، لا بلغات المختبرات. فكل لغة محلية هي خزان للتجارب الإنسانية في التداوي والفهم، وكل تجاهل لها هو تراجع في قدرة الإنسانية على الإنصات لذاتها.
في ختام هذا المقال، يتضح أن القدرة على التعبير ليست ترفًا لغويًا، ولا مهارة هامشية، بل هي في جوهرها قدرة وجودية، تحدد مسار تطور الإنسان ونموه على المستويين الفردي والجمعي. فحين يُحسن الإنسان تسمية مشاعره، ويفهم آلامه، ويترجم خلجات نفسه إلى كلمات مفهومة، فإنه لا يعبّر عن ذاته فحسب، بل يُعيد بناءها عبر اللغة.
فاللغة ليست فقط وعاءً للفكر، بل هي أداة للوعي، ووسيلة للشفاء، ومنصة للنمو. والمجتمعات التي تفقد قدرتها على التعبير الدقيق عن معاناتها، تفقد بالضرورة قدرتها على معالجتها. أما المجتمعات التي تُمكّن أفرادها من امتلاك أدوات لغوية تعبّر عن الداخل بصدق، وتفسر العالم بدقة، فإنها تفتح أمامهم أبواب النمو النفسي، والصحة المعرفية، والتطور الحضاري.
إن القدرة على التعبير، كما أثبتت تجارب التاريخ والعلوم، ليست مسألة بلاغة فحسب، بل حجر الأساس في وعي الإنسان بنفسه، ومفتاح عبوره من طور البقاء إلى فضاء الوجود. وإن أعظم ما يمكن أن يُمنح للإنسان منذ طفولته، هو لغة تجعله يشرح ألمه بوضوح، ويفهم جسده بصدق، وينحت ذاته بمعجم يليق بها.
ففي التعبير، يكمن التطور، ومن خلال اللغة، يولد النمو.